• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ/ج23

نــزار حيدر

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ/ج23

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا* وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.

هذا يعني أنَّ الله تعالى فقط هو صاحب الحكم النّهائي في قبول أو رفض التّوبة من عبدهِ، وهو تعالى لم يحدِّد وقتاً لها لازال الموت لم ينزل في ساحة العبد! فكيف يجيزُ الإرهابي او المتزمّت والمتطرّف دينيّاً لنفسهِ ان ينازعهُ عزّ وجلّ في إرادتهِ وحكمهِ؟ فيحكم على هذا بالكُفر فيقتلهُ وعلى ذاك بالفِسقِ فيذبحهُ، ويرمي ثالث بالنّار؟! سالِباً من النّاس فرصة التّوبة؟!.

هل ضَمِن أحدٌ ان الله تعالى سيغفر له ذنوبهُ ولا يغفر ذنوب الآخرين ليزكّي نَفْسَهُ ويتَّهمهُم؟! والله تعالى يقول {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}.

تعالوا نقرأُ علياً (ع) لنعرف لماذا كان يرفض أَن يُحاكم النّاس على عقائدهِم فكان يرفض محاكم التفتيش بكلّ أشكالِها.

يَقُولُ عليه السلام؛

يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَد بِذَنْبِهِ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَة، فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ; فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ، وَلْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلاً لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُهُ.

ويقولُ عليه السلام: {فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الاْنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ}.

وفي وَاحِدَةٍ من أَعظمِ أقوالهِ بهذا الخصوص، يقول (ع): {فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ، وَمَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ سَيِّىءَ أَعْمَالِهِ، فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ، وَالنَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ} وقولهُ (ع) {يَا أيُّهَا النَّاسُ طُوبى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، وَطُوبى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ، وَأَكَلَ قُوتَهُ، وَاشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ، فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُل، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَة}!.

عجباً لهؤلاءِ كيفَ يجرؤون على الله تعالى فيوقّتون للنّاس سقفاً زمنياً للتّوبة وربُّهم تعالى لم يفعل ذلك برحمتهِ الواسعة! فقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} مَن الذي منحهُم هذا الحقّ؟!.

حقاً انّهم الحمقى الذين وصفهم أَميرُ المؤمنين (ع) بقوله: {وَمَنْ نَظَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ فَأَنْكَرَهَا ثُمَّ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ فذَاك الاْحْمَقُ بِعَيْنِهِ} فالذّنوب تلبسهم من قمّة رأسهم إلى أَخمص قديمَهم ومع ذلك تراهم مشغولون بتكفير هذا وتفسيق ذاك، لدرجةِ القتلِ والذّبح والعُدوان.

إنّهُ نهجُ الخوارج الذي ابتُلي به الإمام والذي كرستهُ السّلطات الحاكمة الظّالمة على مرّ التّاريخ من أجلِ شرعنة كل أنواع عمليّات التّصفية التي تمارسها ضدّ خصومِها ومن أيِّ نوعٍ كان، حتّى إذا ظهرت الفِرق الإرهابيّة زادت في الطّين بلّة، كما نرى اليوم كيف أنّ جماعات العُنف والإرهاب والجماعات (الدّينية) المتزمّتة تصادُر حقوق النّاس وتعتدي على خصوصيّاتهم وتفتّش في عقائدهِم، وكلّ ذلك باسم الدّين وباسم الله تعالى بعد أن نصّبوا أَنفسهم وكلاءَ عن السّماء!.

وعلى الرّغم من أنّ الإمام (ع) اعتبر أنّهُ قضى على الفتنةِ على الأقلّ من النّاحية الفكريّة والعقديّة، عندما فضحهم بنصّ القرآن والسّيرة النبويّة وبمنطق العقل، كما يقول (ع): {أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِىءَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا} مع ذلك فلقد أوصى أصحابهُ أن لا يُقاتلوا الخوارج من بَعْدِهِ، فهو يميّز بين ضالَّين، الأوّل هو الذي يطلبُ الباطل فهو، إذن، هدفهُ من سِبْق الإصرار والترصّد، والثّاني هو الذي يطلب الحقّ فيظلّ طريقهُ، كما يصف ذلك الإمام بقولهِ: {لاَ تَقْتُلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ} فَلَو أنّ كلّ مَن يطلب الحقّ فيُخطئ طريقهُ يُقتل على يدِ من هبَّ ودبّ ومن دون أدنى تنبيهٍ أو تحذيرٍ في إطار النّظام والقانون، إذن لما بقيَ أحدٌ يُحاول ذلك، ولما بقيَ معنىً للتّوبةِ ولتقاتلَ النّاس حتى يُبيد بعضهُم بعضاً!.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فانّ الإمام (ع) كان يميّز بين النّاس عندما يُحاججهُم ويحاورهُم، وهو درسٌ مهمٌّ جداً يجب أن نتعلمهُ، فليس كلّ النّاس نتحدّث معهُم بنفس الحُجَّة والدّليل والبُرهان، فمن شهِد فتنةً وتورّط فيها غير الذي لم يشهدها ولم يتورّط فيها، ومن اعتقدَ بِشَيْءٍ  وأجزمَ فيه ليس كذلك الذي لازال يشكّ أو يتردّد فيه، وهو الأمر الذي ينطبق اليوم تحديداً على الإرهابيّين، فالذي ارتكبَ جريمة القتل لا نتعامل معهُ أو حتّى نحاججهُ بنفس الطّريقة والمفاهيم التي نُحاجج بها الآخر الذي لم يرتكب بعدُ جريمةً وانّما اعتقدَ فقط بالعقيدة الإرهابيّة التكفيريّة، فليس من الصّحيح أن نُساوي بينهم جميعاً فنزيدُ عددهُم فنقوّي مُعسكرهم وبالتّالي نمنحهُم الذّريعة وندفعهُم دفعاً صوب الإرهابيّين المجرمين، وانّما من المصلحة أن نميّز بينهم لنفرّق جمعهم لنعزلَ الشّاك عن اليائسِ من أمثالِ ابْنُ ملجَم الذي استشهدَ بالآيةِ الكريمةِ {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} عندما سالهُ الإمام عن علّة فعلتهِ الشّنعاء وجريتهِ النّكراء!.

يجب أن يكون حرصنا على حقن الدّماء كحرصِ أَميرِ المؤمنين (ع) الذي كان يبذل جهداً عظيماً لعزلِ ولو واحدٍ من (التكفيريّين) عن صفوف الخوارج، وهذا ما أشار إليه خطاب المرجع الأعلى مؤخراً عندما قدّم واجب انقاذ النفس وحماية الأرواح على قتال الإرهابيّين!.

فمن كلامٍ لهُ (ع) مع الخوارج وقد خرج إلى معسكرهِم وهم مقيمون على إِنكار الحكومة، أيّ التّحكيم الذي اتّفق عليه الفريقان المتقاتلان في معركة صفّين {أَكُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّينَ؟ فَقَالُوا: مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ. قَالَ: فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ، فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّينَ فِرْقَةً، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فَرْقَةً، حَتَّى أُكَلِّمَ كُـلاًّ مِنْكُمْ بِكَلاَمِهِ. وَنَادَى النَّاسَ، فَقَالَ: أَمْسِكُوا عَنِ الْكَلاَمِ، وَأَنْصِتُوا لِقَوْلِي، وَأَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ، فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا.

ثُمَّ كَلَّمَهُمْ(ع) بِكَلاَم طَوِيل، مِنْ جُمْلَتِهِ أَنْ قَالَ:

أَلَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ ـ حِيلَةً وَغِيلَةً وَمَكْراً وَخَدِيعَةً ـ: إِخْوانُنَا وَأَهْلُ دَعْوَتِنَا، اسْتَقَالُونَا وَاسْتَرَاحُوا إِلى كِتَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَالرَّأْيُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِيسُ عَنْهُمْ؟

فَقُلْتُ لَكُمْ: هذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ، وَبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ، وَأَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَآخِرُهُ نَدَامَةٌ، فَأَقِيمُوا عَلى شَأْنِكُمْ، وَالْزمُوا طَرِيقَتَكُمْ، وَعَضُّوا عَلَى الْجِهَادِ بِنَوَاجِذِكُمْ، وَلاَ تَلْتَفِتُوا إِلى نَاعِق نَعَقَ: إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ، وَإِنْ تُرِكَ ذَلَّ}.

انظروا كيف كان يُحاصرُهم الإمام بالمسؤولية التي ترتّبت على التزاماتهِم ورأيهم والتي كانوا يُحاولون أن يتهرّبوا منها ويعصبونَها في رأس الإمام، ظلماً وعُدواناً، تارةً بالنّسيان وأُخرى بالتّناسي وثالثة بالتّضليل ورابعة بالتّعمية.

نفس الحال ما نمرُّ به اليوم، ولذلك نحن بحاجةٍ إلى إِعلام وطنيٍّ قويٍّ قادر على الحوار وتنشيط الذّاكرة لردع التُّهم والافتراءات والإشاعات وما يسعى الإرهابيّون لتناسيهِ وهم يغسلونَ أَدمغة الشّباب المغرّر بهم. فما بالكَ إذا كان إِعلامنا الوطني ضعيف الذّاكرة أو أنّ ذاكرتهُ مُصَفّرة؟ أو أَنّهُ مشغولٌ بنفسهِ؟!.

فهل سيتمكّن من مُواجَهَةِ سيل تضليلهِم وأكاذيبهِم؟!.

ارسال التعليق

Top